فصل: ذكر ملك وشمكير الري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عود ابن رائق إلى بغداد:

في هذه السنة عاد أبو بكر محمد بن رائق من الشام إلى بغداد، وصار أمير الأمراء.
وكان سبب ذلك أن الأتراك البجكمية لما ساروا إلى الموصل لم يروا عند ابن حمدان ما يريدون، فساروا نحو الشام إلى ابن رائق، وكان فيهم من القواد توزون، وخجخج، ونوشتكين، وصيغون، فلما وصلوا إليه أطمعوه في العود إلى العراق، ثم وصلت إليه كتب المتقي يستدعيه، فسار من دمشق في العشرين من رمضان، واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل، فلما وصل إلى الموصل تنحى عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان، فتراسلا، واتفقا على أن يتصالحا، وحمل ابن حمدان إليه مائة ألف دينار، وسار ابن رائق إلى بغداد، فقبض كورتكين على القراريطي الوزير، واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي في ذي القعدة، وكانت وزارة القراريطي ثلاثة وأربعين يوماً، وبلغ خبر ابن رائق إلى أبي عبدالله البريدي، فسير إخوته إلى واسط فدخلوها، وأخرجوا الديلم عنها، وخطبوا له بواسط، وخرج كورتكين عن بغداد إلى عكبرا، ووصل إليه ابن رائق، فوقعت الحرب بينهم، واتصلت عدة أيام.
فلما كان ليلة الخميس لتسع بقين من ذي الحجة سار ابن رائق ليلاً من عكبرا هو وجيشه، فأصبح ببغداد، فدخلها من الجانب الغربي هو وجميع جيشه، ونزل في النجمي، وعبر من الغد إلى الخليفة فلقيه، وركب المتقي لله معه في دجلة، ثم عاد ووصل هذا اليوم بعد الظهر كورتكين مع جميع جيشه من الجانب الشرقي، وكانوا يستهزئون بأصحاب ابن رائق ويقولون: أين نزلت هذه القافلة الواصلة من الشام؟ ونزلوا بالجانب الشرقي.
ولما دخل كورتكين بغداد أيس ابن رائق من ولايتها فأمر بحمل أثقاله والعود إلى الشام، فرفع الناس أثقالهم، ثم إنه عزم أن يناوشهم شيئاً من قتال قبل مسيره، فأمر طائفة من عسكره أن يعبروا دجلة ويأتوا الأتراك من ورائهم، ثم إنه ركب في سميرية، وركب معه عدة من أصحابه في عشرين سميرية، ووقفوا يرمون الأتراك بالنشاب. وصل أصحابه وصاحوا من خلفهم، واجتمعت العامة مع أصحاب ابن رائق يضجون، فظن كورتكين أن العسكر قد جاءه من خلفه ومن بين يديه، فانهزم هو وأصحابه، واختفى هو، ورجمهم العامة بالآجر وغيره.
وقوي أمر ابن رائق، وأخذ من استأمن إليه من الديلم فقتلهم عن آخرهم وكانوا نحو أربعمائة، فلم يسلم منهم غير رجل واحد اختفى بين القتلى، وحمل معهم في الجواليق، وألقي في دجلة فسلم وعاش بعد ذلك دهراً؛ وقتل الأسرى من قواد الديلم، وكانوا بضعة عشر رجلاً، وخلع المتقي على ابن رائق، وجعله أمير الأمراء، وأمر أبا جعفر الكرخي بلزوم بيته، وكانت وزارته ثلاثة وثلاثين يوماً، واستولى أحمد الكوفي على الأمر فدبره، ثم ظفر ابن رائق بكورتكين فحبس بدار الخليفة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كان بالعراق غلاء شديد، فاستسقى الناس في ربيع الأول، فسقوا مطراً قليلاً لم يجر منه ميزاب، ثم اشتد الغلاء والوباء، وكثر الموت حتى كان يدفن الجماعة في القبر الواحد ولا يغسلون، ولا يصلى عليهم، ورخص العقار ببغداد والأثاث حتى بيع ما ثمنه دينار بدرهم. وانقضى تشرين الأول، وتشرين الثاني، والكانونان، وشباط، ولم يجيء غير المطرة التي عند الاستسقاء، ثم جاء المطر في آذار ونيسان.
وفيها، في شوال، استوزر المتقي لله أبا إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي، بعد عود بني البريدي من بغداد، وجعل بدراً الخرشني حاجبه، فبقي وزيراً إلى الخامس والعشرين من ذي القعدة، فقبض عليه كورتكين، وكانت وزارته ثلاثة وأربعين يوماً، واستوزر بعده أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي، فبقي وزيراً إلى الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، فعزله ابن رائق لما استولى على الأمور ببغداد، فكانت وزارته اثنين وثلاثين يوماً، ودبر الأمور أبو عبدالله الكوفي كاتب ابن رائق من غير تسمية بوزارة.
وفيها عاد الحجاج إلى العراق، ولم يصلوا إلى المدينة بل سلكوا الجادة بسبب طالبي ظهر بتلك الناحية وقوي أمره.
وفيها كثرت الحميات ووجع المفاصل في الناس، ومن عجل الفصاد بريء وإلا طال مرضه.
وفي أيام الراضي توفي أبو بشر أخو متى بن يونس الحكيم الفيلسوف، وله تصانيف في شرح كتب أرسطاطاليس.
وفيها، في ذي الحجة، مات بختيشوع بن يحيى الطبيب.
وفيها مات محمد بن عبدالله البلغمي، وزير السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان، وكان من عقلاء الرجال، وكان نصر قد صرفه عن وزارته سنة ست وعشرين وثلاثمائة، وجعل مكانه محمد بن محمد الجيهاني.
وفيها توفي أبو كر محمد بن المظفر بن محتاج ودفن بالصغانيان؛ وأبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري، رئيس الحنابلة، توفي مستتراً، ودفن في تربة نصر القشوري، وكان عمره ستاً وسبعين سنة. ثم دخلت:

.سنة ثلاثين وثلاثمائة:

.ذكر وزارة البريدي:

في هذه السنة وزر أبو عبدالله البريدي للمتقي لله.
وكان سبب ذلك أن ابن رائق استوحش من البريدي لأنه أخر حمل المال، وانحدر إلى واسط عاشر المحرم، فهرب بنو البريدي إلى البصرة، وسعى لهم أبو عبدالله الكوفي حتى عادوا وضمنوا بقايا واسط بمائة وتسعين ألف دينار، وضمنوها كل سنة بستمائة ألف دينار.
وعاد ابن رائق إلى بغداد، فشغب الجند عليه ثاني ربيع الآخر، وفيهم توزون وغيره من القواد، ورحلوا في العشر الآخر من ربيع الآخر إلى أبي عبدالله البريدي بواسط، فلما وصلوا إليه قوي بهم، فاحتاج ابن رائق إلى مداراته، فكاتب أبا عبدالله البريدي بالوزارة، وأنفذ له الخلع، واستخلف أبا عبدالله بن شيرزاد، ثم وردت الأخبار إلى بغداد بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد، فأزال ابن رائق اسم الوزارة عنه، وأعاد أبا إسحاق القراريطي، ولعن بني البريدي على المنابر بجانبي بغداد.

.ذكر استيلاء البريدي على بغداد وإصعاد المتقي إلى الموصل:

وسير أبو عبدالله البريدي أخاه أبا الحسين إلى بغداد في جميع الجيش من الأتراك والديلم، وعزم ابن رائق على أن يتحصن بدار الخليفة، فأصلح سورها، ونصب عليه العرادات والمنجنيقات، وعلى دجلة، وانهض العامة، وجند بعضهم، فثاروا في بغداد وأحرقوا ونهبوا، وأخذوا الناس ليلاً ونهاراً.
وخرج المتقي لله وابن رائق إلى نهر ديالي منتصف جمادى الآخرة، ووافاهم أبو الحسين عنده في الماء والبر، واقتتل الناس، وكانت العامة على شاطئ دجلة في الجانبين يقاتلون من في الماء من أصحاب البريدي، وانهزم أهل بغداد، واستولى أصحاب البريدي على دار الخليفة، ودخلوا إليها في الماء وذلك لتسع بقين من جمادى الآخرة، وهرب المتقي وابنه الأمير أبو منصور في نحو عشرين فارساً، ولحق بهما ابن رائق في جيشه، فساروا جميعاً نحو الموصل، واستتر الوزير القراريطي، وكانت مدة وزارته الثانية أربعين يوماً، وإمارة ابن رائق ستة أشهر، وقتل أصحاب البريدي من وجدوا في دار الخليفة من الحاشية، ونهبوها، ونهبوا دور الحرم.
وكثر النهب في بغداد ليلاً ونهاراً، وأخذوا كورتكين من حبسه، وأنفذه أبو الحسين إلى أخيه بواسط فكان آخر العهد به، ولم يتعرضوا للقاهر بالله، ونزل أبو الحسين بدار مؤنس التي يسكنها ابن رائق وعظم النهب، فأقام أبو الحسين توزون على الشرطة بشرقي بغداد، وجعل نوشتكين على شركة الجانب الغربي، فسكن الناس شيئاً يسيراً، وأخذ أبو الحسين البريدي رهائن القواد الذين مع توزون وغيره، وأخذ نساءهم وأولادهم فسيرهم إلى أخيه أبي عبدالله بواسط.

.ذكر ما فعله البريدي ببغداد:

لما استولى على بغداد أخذ أصحابه في النهب والسلب وأخذ الدواب، وجعلوا طلبها طريقاً إلى غيرها من الأثاث، وكبست الدور، وأخرج أهلها منها ونزلت، وعظم الأمر، وجعل على كر من الحنطة، والشعير، وأصناف الحبوب، خمسة دنانير، وغلت الأسعار فبيع كر الحنطة بثلاثمائة وستة عشر ديناراً، والخبز الخشكوار رطلين بقيراطين صحيح أميري، وحبط أهل الذمة، وأخذ القوي بالضعيف، وورد من الكوفة وسوادها خمسمائة كر من الحنطة والشعير، فأخذه جميعه وادعى أنه للعامل بتلك الناحية.
ووقعت الفتن بين الناس، فمن ذلك أنه كان معه طائفة من القرامطة، فجرى بينهم وبين الأتراك حرب قتل فيها جماعة، وانهزم القرامطة، وفارقوا بغداد، ووقعت حرب بين الديلم والعامة قتل فيها جماعة من حد نهر طابق إلى القنطرة الجديدة.
وفي آخر شعبان زاد البلاء على الناس، فكبسوا منازلهم ليلاً ونهاراً، واستتر أكثر العمال لعظيم ما طولبوا به مما ليس في السواد، وافترق الناس، فخرج الناس وأصحاب السلطان إلى قرب من بغداد، فحصدوا ما استحصدوا من الحنطة والشعير، وحملوه بسنبله إلى منازلهم، وكان مع ذلك ينهب ويعسف أهل العراق ويظلمهم ظلماً لم يسمع بمثله قط، والله المستعان.
وإنما ذكرنا هذا الفصل ليعلم الظلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر، فربما تركوا الظلم لهذا أن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى.

.ذكر قتل ابن رائق وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء:

كان المتقي لله قد أنفذ إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمده على البريديين، فأرسل أخاه سيف الدولة علي بن عبدالله بن حمدان نجدةً له في جيش كثيف، فلقي المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما، فخدم سيف الدولة للمتقي خدمة عظيمة، وسار معه إلى الموصل، ففارقها ناصر الدولة إلى الجانب الشرقي، وتوجه نحو معلثايا، وترددت الرسل بينه وبين ابن رائق، حتى تعاهدا واتفقا، فحضر ناصر الدولة ونزل على دجلة بالجانب الشرقي، فعبر إليه الأمير أبو منصور بن المتقي وابن رائق يسلمان عليه، فنثر الدنانير والدراهم على ولد المتقي، فلما أرادوا الانصراف من عنده ركب ابن المتقي، وأراد ابن رائق الركوب، فقال له ناصر الدولة: تقيم اليوم عندي لنتحدث فيما نفعله؛ فاعتذر ابن رائق بابن المتقي، فألح عليه ابن حمدان، فاستراب به، وجذب كمه من يده فقطعه، وأراد الركوب فشب به الفرس فسقط، فصاح به ابن حمدان بأصحابه: أقتلوه! فقتلوه، وألقوه في دجلة.
وأرسل ابن حمدان إلى المتقي يقول: إنه علم أن ابن رائق أراد أن يغتاله، ففعل به ما فعل؛ فرد عليه المتقي رداً جميلاً، وأمره بالمسير إليه، فسار ابن حمدان إلى المتقي لله، فخلع عليه، ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وذلك مستهل شعبان، وخلع على أخيه أبي الحسين علي، ولقبه سيف الدولة.
وكان قتل ابن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب، ولما قتل ابن رائق سار الإخشيد من مصر إلى دمشق، وكان بها محمد بن يزداد، خليفة ابن رائق، فاستأمن إلى الإخشيد، وسلم إليه دمشق فأقره عليها، ثم نقله عنها إلى مصر وجعله على شرطتها، ويقال إن لابن رائق شعراً منه:
يصفّر وجهي إذا تأمّله ** طرفي ويحمرّ وجهه خجلا

حتّى كأنّ الذي بوجنته ** من دم قلبي إليه قد نقلا

وقد قيل إنها للراضي بالله وقد تقدم.

.ذكر عود المتقي إلى بغداد وهرب البريدي عنها:

لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد، وأساء السيرة كما ذكرناه، نفرت عنه قلوب الناس العامة والأجناد، فلما قتل ابن رائق سارع الجند إلى الهرب من البريدي، فهرب خجخج إلى المتقي، وكان قد استعمله البريدي على الراذانات وما يليها، ثم تحالف توزون، ونوشتكين، والأتراك على كبس أبي الحسين البريدي، فغدر نوشتكين فأعلم البريدي الخبر، فاحتاط، وأحضر الديلم عنده، وقصده توزون، فحاربه الديلم، وعلم توزون غدر نوشتكين به، فعاد ومعه جملة وافرة من الأتراك، وسار نحو الموصل خامس رمضان، فقوي بهم ابن حمدان، وعزم على الانحدار إلى بغداد، وتجهز وانحدر هو والمتقي، واستعمل على أعمال الخراج والضياع بديار مضر، وهي الرها وحران والرقة، أبا الحسن علي بن طياب، وسيره من الموصل.
وكان على ديار مضر أبو الحسين أحمد بن علي بن مقاتل خليفة لابن رائق، فاقتتلوا، فقتل أبو الحسين بن مقاتل واستولى ابن طياب عليها، فلما قارب المتقي لله وناصر الدولة بن حمدان بغداد هرب أبو الحسين منها إلى واسط، واضطرت العامة ببغداد، ونهب الناس بعضهم بعضاً، وكان مقام أبي الحسين ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً، ودخل المتقي لله إلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة، واستوزر المتقي أبا إسحاق القراريطي، وقلد توزون شرطة جانبي بغداد، وذلك في شوال.

.ذكر الحرب بين ابن حمدان والبريدي:

لما هرب أبو الحسين البريدي إلى واسط، ووصل بنو حمدان والمتقي إلى بغداد، خرج بنو حمدان عن بغداد نحو واسط، وكان أبو الحسين قد سار من واسط إليهم ببغداد، فأقام ناصر الدولة بالمدائن، وسير أخاه سيف الدولة وابن عمه أبا عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان في الجيش إلى قتال أبي الحسين، فالتقوا تحت المدائن بفرسخين، واقتتلوا عدة أيام آخرها رابع ذي الحجة، وكان توزون وخجخج والأتراك مع ابن حمدان، فانهزم سيف الدولة ومن معه إلى المدائن، وبها ناصر الدولة، فردهم وأضاف إليهم من كان عنده من الجيش، فعاودوا القتال، فانهزم أبو الحسين البريدي، وأسر جماعة من أعيان أصحابه، وقتل جماعة، وعاد أبو الحسين البريدي منهزماً إلى واسط، ولم يقدر سيف الدولة على اتباعه إليها لما في أصحابه من الوهن والجراح.
وكان المتقي قد سير أهله من بغداد إلى سر من رأى، فأعادهم، وكان أعيان الناس قد هربوا من بغداد، فلما انهزم البريدي عادوا إليها، وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى بغداد، فدخلها ثالث عشر ذي الحجة، وبين يديه الأسرى على الجمال، ولما استراح سيف الدولة وأصحابه انحدروا من موضع المعركة إلى واسط، فرأوا البريديين قد انحدروا إلى البصرة، فأقام بواسط ومعه الجيش، وسنذكر من أخباره سنة إحدى وثلاثين.
ولما عاد ناصر الدولة إلى بغداد نظر في العيار، فرآه ناقصاً، فأمر بإصلاح الدنانير، فضرب دنانير سماها الإبريزية، عيارها خير من غيرها، فكان الدينار بعشرة دراهم، فبيع هذا الدينار بثلاثة عشر درهماً.

.ذكر استيلاء الديلم على أذربيجان:

كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي، وكان قد صحب يوسف ابن أبي الساج، وخدم وتقدم حتى استولى على أذربيجان، وكان يقول بمذهب الشراة هو وأبوه، وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري، فلما قتل هارون هرب إلى أذربيجان، وتزوج ابنة رئيس من أكرادها، فولدت له ديسم، فانضم إلى أبي الساج، فارتفع وكبر شأنه، وتقدم إلى أن ملك أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج، وكان معظم جيوشه الأكراد، إلا نفراً يسيراً من الديلم، من عسكر وشمكير، أقاموا عنده حين صحبوه إلى أذربيجان.
ثم إن الأكراد تقووا، وتحكموا عليه، وتغلبوا على بعض قلاعه وأطراف بلاده، فرأى أن يستظهر عليهم بالديلم، فاستكثر ذلك منهم، وكان فيهم صعلوك بن محمد بن مسافر، وعلي بن الفضل وغيرهما، فأكرمهم ديسم، وأحسن إليهم، وانتزع من الأكراد ما تغلبوا عليه من بلاده، وقبض على جماعة من رؤسائهم.
وكان وزيره أبا القاسم علي بن جعفر، وهو من أهل أذربيجان، فسعى به أعداؤه، فأخافه ديسم، فهرب إلى الطرم إلى محمد بن مسافر، فلما وصل إليه رأى ابنيه وهسوذان والمرزبان قد استوحشا منه، واستوليا على بعض قلاعه، وكان سبب وحشتهما سوء معاملته معهما ومع غيرهما، ثم إنهما قبضا على أبيهما محمد بن مسافر، وأخذا أمواله وذخائره، وبقي في حصن آخر وحيداً فريداً بغير مال ولا عدة، فرأى علي بن جعفر الحال فتقرب إلى المرزبان وخدمه وأطمعه في أذربيجان، وضمن له تحصيل أموال كثيرة يعرف هو وجوهها، فقلده وزارته.
وكان يجمعهما مع الذي ذكرنا أنهما كانا من الشيعة، فإن علي بن جعفر كان من دعاة الباطنية، والمرزبان مشهور بذلك، وكان ديسم كما ذكرنا يذهب إلى مذهب الخوارج في بغض علي، عليه السلام، فنفر عنه من عنده من الديلم، وابتدأ علي بن جعفر فكاتب من يعلم أنه يستوحش من ديسم يستميله، إلى أن أجابه أكثر أصحابه، وفسدت قلوبهم على ديسم، وخاصة الديلم، وسار المرزبان إلى أذربيجان، وسار ديسم إليه، فلما التقيا للحرب عاد الديلم إلى المرزبان، وتبعهم كثير من الأكراد مستأمنين، فحمل المرزبان على ديسم، فهرب في طائفة يسيرة من أصحابه إلى أرمينية، واعتصم بحاجيق بن الديراني، لمودة بينهما، فأكرمه، واستانف ديسم يؤلف الأكراد، وكان أصحابه يشيرون عليه بإبعاد الديلم لمخالفتهم أياه في الجنس والمذهب، فعصاهم، وملك المرزبان أذربيجان، واستقام أمره إلى أن فسد ما بينه وبين وزيره علي ابن جعفر.
وكان سبب الوحشة بينهما أن علياً أساء السيرة مع أصحاب المرزبان، فتضافروا عليه، فأحس بذلك، فاحتال على المرزبان، فأطمعه في أموال كثيرة يأخذها له من بلد تبريز، فضم إليه جنداً من الديلم وسيرهم إليها، فاستمال أهل البلد، فعرفهم أن المرزبان إنما سيره إليهم ليأخذ أموالهم، وحسن لهم قتل من عندهم من الديلم، ومكاتبة ديسم ليقدم عليهم، فأجابوه إلى ذلك.
وكاتب ديسم، ووثب أهل البلد بالديلم فقتلوهم، وسار ديسم فيمن اجتمع إليه من العسكر إلى تبريز، وكان المرزبان قد ساء إلى من استأمن إليه من الأكراد، فلما سمعوا بديسم أنه يريد تبريز ساروا إليه، فلما اتصل ذلك بالمرزبان ندم على إيحاش علي بن جعفر، ثم جمع عسكره وسار إلى تبريز، فتحارب هو وديسم بظاهر تبريز، فانهزم ديسم والأكراد، وعادوا فتحصنوا بتبريز، وحصرهم المرزبان وأخذ في إصلاح علي بن جعفر ومراسلته، وبذل له الأيمان على ما يريده، فأجابه علي: إنني لا أريد من جميع ما بذلته إلى السلامة وترك العمل؛ فأجابه إلى ذلك وحلف له.
واشتد الحصار على ديسم، فسار من تبريز إلى أردبيل، وخرج علي ابن جعفر إلى المرزبان، فساروا إلى أردبيل وترك المرزبان على تبريز من يحصرها، وحصر هو ديسم بأردبيل، فلما طال الحصار عليه طلب الصلح، وراسل المرزبان في ذلك، فأجابه إليه، فاصطلحا وتسلم المرزبان أردبيل، فأكرم ديسم وعظمه، ووفى له بما حلف له عليه، ثم إن ديسم خاف على نفسه من المرزبان، فطلب منه أن يسيره إلى قلعته بالطرم فيكون فيها هو وأهله، ويقنع بما يتحصل له منها، ولا يكلفه شيئاً آخر، ففعل المرزبان ذلك، وأقام ديسم بقلعته هو وأهله.

.ذكر استيلاء أبي علي بن محتاج على بلد الجبل وطاعة وشمكير للسامانية:

قد ذكرنا سنة تسع وعشرين مسير أبي علي بن محتاج صاحب جيوش خراسان للسامانية إلى الري، وأخذها من وشمكير، ومسير وشمكير إلى طبرستان، وأقام أبو علي بالري، بعد ملكها، تلك الشتوة، وسير العساكر إلى بلد الجبل، فافتتحها، واستولى على زنكان، وأبهر، وقزوين، وقم، وكرج، وهمذان، ونهاوند والدينور إلى حدود حلوان، ورتب فيها العمال، وجبى أموالها.
وكان الحسن بن الفيرزان بسارية، فقصده وشمكير وحصره، فسار إلى أبي علي واستنجده وأقام وشمكير متحصناً بسارية، فسار إليه أبو علي ومعه الحسن وحصراه بها سنة ثلاثين وضيق عليه، وألح عليه بالقتال كل يوم، وهم في شتاء شاتٍ كثير المطر، فسأل وشمكير المواعدة، فصالحه أبو علي، وأخذ رهائنه على لزوم طاعة الأمير نصر بن أحمد الساماني، ورحل عنه إلى جرجان في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، فأتاه موت الأمير نصر بن أحمد، فسار عنها إلى خراسان.

.ذكر استيلاء الحسن بن الفيرزان على جرجان:

كان الحسن بن الفيرزان عم ما كان بن كالي، وكان قريباً منه في الشجاعة، فلما قتل ما كان راسله وشمكير ليدخل في طاعته، فلم يفعل، وكان بمدينة سارية، وصار يسب وشمكير، وينسبه إلى المواطأة على قتل ما كان، فقصده وشمكير، فسار الحسن من سارية إلى أبي علي صاحب جيوش خراسان، فسار معه أبو علي من الري، فحصر وشمكير بسارية، وأقام يحاصره إلى سنة إحدى وثلاثين، واصطلحا.
وعاد أبو علي إلى خراسان، وأخذ ابناً لوشمكير، اسمه سالار، رهينة، وصحبه الحسن بن الفيرزان، وهو كاره للصلح، فبلغه وفاة السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان، فلما سمع الحسن ذلك عزم على الفتك بأبي علي، فثار به وبعسكره، فسلم أبو علي، ونهب الحسن سواده، وأخذ ابن وشمكير، وعاد إلى جرجان فملكها، وملك الدامغان وسمنان، ولما وصل أبو علي إلى نيسابور رأى إبراهيم بن سيمجور الدواتي قد امتنع عليه بها وخالفه، فترددت الرسل بينهم فاصطلحوا.

.ذكر ملك وشمكير الري:

لما انصرف أبو علي إلى خراسان، وجرى عليه من الحسن ما ذكرناه، وعاد إلى جرجان، سار وشمكير من طبرستان إلى الري فملكها واستولى عليها، وراسله الحسن بن الفيرزان يستميله، ورد عليه ابنه سالار الذي كان عند أي علي رهينة، وقصد أن يتقوى به على الخراسانية أن عادوا إليه، فألان له وشمكير الجواب، ولم يصرح بما يخالف قاعدته مع أبي علي.

.ذكر استيلاء ركن الدولة على الري:

لما سمع ركن الدولة وأخوه عماد الدولة ابنا بويه بملك وشمكير الري طمعا فيه لأن وشمكير كان قد ضعف، وقلت رجاله وماله بتلك الحادثة مع أبي علي، فسار ركن الدولة الحسن بن بويه إلى الري واقتتل هو وشمكير، فانهزم وشمكير، واستأمن كثير من رجاله إلى ركن الدولة، فسار وشمكير إلى طبرستان، فقصده الحسن بن الفيرزان، فاستأمن إليه كثير من عسكره أيضاً، فانهزم وشمكير إلى خراسان.
ثم إن الحسن بن الفيرزان راسل ركن الدولة وواصله، فتزوج ركن الدولة بنتاً للحسن، فولدت له ولده فخر الدولة علياً.
وكان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث بعد وفاة السعيد نصر بن أحمد وإنما ذكرناها هاهنا ليتلو بعضها بعضاً.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة صرف بدر الخرشني عن حجبة الخليفة، وجعل مكانه سلامة الطولوني.
وفيها ظهر كوكب، في المحرم، بذنب عظيم في أول برج القوس، وآخر برج العقرب بين الغرب والشمال، وكان رأسه في المغرب وذنبه في المشرق، وكان عظيماً منتشر الذنب، وبقي ظاهراً ثلاثة عشر يوماً، وسار في القوس والجدي ثم اضمحل.
وفيها اشتد الغلاء لا سيما بالعراق، وبيع الخبز أربعة أرطال بقيراطين صحيح أميري، وأكل الضعفاء الميتة، وكثر الوباء والموت جداً.
وفيها، في ربيع الآخر، وصل الروم إلى قرب حلب، ونهبوا وخربوا البلاد، وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان.
وفيها دخل الثملي من ناحية طرسوس إلى بلاد الروم، فقتل، وسبى، وغنم وعاد سالماً، وقد أسر عدة من بطارقتهم المشهورين.
وفيها، في ذي القعدة، قلد المتقي لله بدراً الخرشني طريق الفرات، فسار إلى الإخشيد مستأمناً فقلده بلدة دمشق، فلما كان بعد مدة حم ومات بها.
وفيها، في جمادي الآخرة، ولد أبو منصور بويه بن ركن الدولة بن بويه وهو مؤيد الدولة.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبدالله المعروف بالصيرفي، الفقيه الشافعي، وله تصانيف في أصول الفقه وفيها توفي القاضي أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل المحاملي، الفقيه الشافعي، وهو من المكثرين في الحديث، وكان مولده سنة خمس وثلاثين ومائتين، وكان على قضاء الكوفة وفارس، فاستعفى من القضاء وألح في ذلك، فأجيب إليه.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري المتكلم صاحب المذهب المشهور، وكان مولده سنة ستين ومائتين، وهو من ولد أبي موسى الأشعري.
وفيها مات محمد بن محمد الجيهاني وزير السعيد نصر بن أحمد تحت الهدم.
وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي، الفقيه الشافعي، وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين، وأخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي وتعلم منه. ثم دخلت: